تمايز القبائل العربية وطبقيّتها وسقوط بعضها



كان العرب يحبّون التميّز عن بعضهم البعض ، وقد برع بعضهم في جانبٍ ما حتى عُرفوا به ، كالكرم والشجاعة ، والقيافة ، والتحكيم ، والذادة ، وكانت الإفاضة لقوم ، والسقاية والرفادة لقوم وهكذا ، وهناك قومٌ شرفوا وهناك قومٌ سقطوا ، وكلّ هذا لا شأن له بأنسابهم بل بمرتبتهم الاجتماعية .

ومثال ذلك ممّا لا يزال معمولاً به إلى يومنا هذا : مصطلح هتيم ، وهو اسمٌ كان يطلق على بعض القبائل الصغيرة الضعيفة التي تؤدّي جعلاً للقبائل القويّة ، فأنفت منها القبائل القويّة ، فكانوا يأنفون من غزوهم ، ومن الزواج من نسائهم إلى غير ذلك من أوضاعٍ إجتماعيّةٍ لا ترضي الله تعالى . بل وصل الأمر إلى الطعن في أنسابهم وجعلهم من أصلٍ واحدٍ اختلقوا له قصّةً باطلة أسندوها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم . رغم أنّ هذه القبائل من أصولٍ متفرّقٍ مختلفةٍ وبعضها له نسبٌ واضحٌ صحيحٌ لا تمتلكه بعض القبائل القويّة التي شرّق القائلون وغرّبوا في أنسابها .
ومنشأ هذا أنّ العرب كانوا يريدون التمييز بين الجيّد والرديء ، والكريم والبخيل ، والشجاع والجبان ، وهكذا ، ولهذا كان لا بدّ لهم من ابتداع نظامٍ لتحقيق هذه الغاية ، وقد وجدت النسّابتين العذري ودغفل أوضحا هذا في نصّين نفيسين لعلّه يكون منشأ هذا الابتداع الذي تطوّر إلى أن جعل العرب بعض قبائلهم ساقطة القيمة كحال هتيم في جزيرة العرب وبلاد العراق وبلاد الشام والديار المصرية وغيرها ، وفيما يلي بيان ذلك : 

1ــ القرعة الأولى : 

قال المختار بن أوس بن لبيد العذري النسّابة : " أوّل حلف كان في معدّ بعضهم في بعض ، وأمثال لا يعرفها الناس من أهل تهامة من بقايا العرب العاربة التي دخلت في القبائل اجتمعوا في الزمن الأوّل ، وهم مضر وإياد وربيعة وقضاعة وبجيلة ، وهم إذ ذاك بتهامة قبل أن يتفرّقوا في المنازل جميعاً بعكاظ ، وعكاظ سوق على أن يقرعوا بينهم على الكرم واللؤم ، فمن خرج قِدْحَه آخراً فهو الأم العرب ، فأجالت مضر قداحها ففازت كلّها إلّا ابنا دخان غنيٌّ وباهلة والطفاوة فإنَّ قدحهم خرج أخيراً ، فلامتهم العرب فقال شاعرهم منشداً :

جرينا فلم نعدل بمولى لعامــــرٍ .... وحيناً إذا عُدَّ الفضائلُ والخطر

وقيل : 

دخانٌ خالف اللوم وانتمـــى .... وخصّ به دون العمائر من مضر
فيا لك من عارٍ ويا لك سبّةً .... أمَعْز بن مـــال للمذلّـــة والحــــقر

قال : وضربت إياد قداحها ففازت كلّها ، وضربت ربيعة قداحها ففازت كلّها إلّا غفيلة وهو عامر بن قاسط ، فضربت العرب لها المثل فقالت : 

ركبت ربيعة المجـــد ..... وغفلت غفيلة على عمد 

قال : وأجالت بجيلة قداحها ففازت كلّها إلّا قرحة بن أنمار فخاب ، وأجالت خثعم قداحها ففازت إلّا كود فقالت العرب : 

كود ليست بهبع ولا عود 

قال : وأجالت قضاعة قداحها ففازت كلّها إلّا حوتكة بن أسلم فخاب قدحه فصغّرت العرب أمرهم . 

2ــ القرعة الثانية :

قال دغفل النسّابة : " كانت العرب في وسط من جاهليّتها والناس قد كثروا فكانوا لا يعرفون فضل الكريم على اللئيم ، وكانوا قد سمعوا بالقرعة الأولى ، فأرادوا أن يعرفوا الكريم من اللئيم ، والخامل من الرفيع . قال : فاجتمع منهم بالموسم من كان يعبد الأوثان ويحجّ البيت ، فأمّا من كان من العرب له كتاب فلم يكن يحجّ ، فاجتمع من حجّ من ربيعة ومضر واليمن فقالوا : تعالوا فنقرع بالقداح فمن خرج قدحه آخراً لم يزوّجه أحدٌ ممّن فاز قدحه ، وكان تابعاً أبداً ، وإن أسر منهم رجل ففداؤه ثلاثة من الإبل ، وفداء من فاز قدحه عشرة من الإبل فصاعداً ، وإن أسر رجل من الفائزين رجلاً من الخائبين ، وأسر رجلٌ من الخائبين رجلاً من الفائزين فأرادوا الفداء ، فالفايز يقبل بنفسه ويأخذ عشرة من الإبل حتى يصير الخائب كالفائز .

قال : فحلفوا بالبيت الحرام والركن والمقام وجميع الأوثان والأصنام أن لا يرجعوا عمّا اجتمعوا عليه كان عليهم أو لهم . قال :
فبدأت بنو تميم بن مرّ ومن معها من حيّ مرّ وضبّة والرباب ومزينة ، فكانت قداحهم قدحين قدحٌ لبني تميم وقدحٌ لسائرهم ، ففازت كلّها وخابت عكل ، فقال العرب :

بزت أدٌّ بالفضــــل .... وكانت الكبّة على عكل 

ثمّ أجالت مدركة على قدحين كنانة وأسد قدح ، وقدحٌ لسائرهم ، ففازوا وخاب قدح الهون بن أسد فقالت العرب : 

إنَّ بني مدركة بن خنـــــــــدف
قد سبقوا الناس غداة الموقف
وخلّفوا الهون بشرّ مخلـــــف
قال : فحالفت الهون بني كنانة .

وأجالت بنو سعد بن قيس بن عيلان قداحها على قدحين غطفان على قدح وابنا دخانٍ على قدح ، ففازت غطفان وخابت بنو دخان ، فقالت العرب : 

غطفــــــان غطفــــــان
ليسوا بعدل لبني دخان 

وأجالت بنو خصفة بن قيس على قدحين هوازن وسليم ومازن قدح ، ومحارب قدح ففازت كلّها إلّا محارب فقالت العرب :

قد برزت منصور يوم السبق
وخلـــفت محـــارباً في ربــق 

وأجالت ربيعة بن نزار قداحها على قدحين لبني وائل بن قاسط قدح وقدح للنمر وعبد القيس وعنزة وضبيعة بن أصحم ففازوا وخابت عنزة وعميرة وضبيعة وعنز . 

وضربت قضاعة قداحها على مثل ذلك ففازت وخابت نهد وجرم .

وأجالت مذحج قداحها على خالد بن مالك قدح وبني عبس وصدا ورها ومسيلة وجنب ورعل قدح ففازت سعد العشيرة وخالد وخاب سوى ذلك . 

وأجالت الأزد قداحها ففازت كلّها إلّا بارق وثمالة . 

وأجالت كندة قداحها ففازت إلّا الرايش بن الحارث وحوت والطمح .

فليس لأحدٍ ممّن خاب إلّا صار حليفاً في قومٍ فإذا كانوا غربي استأجروا الخيّب بأجر فإذا عتموا أعطوهم ما وافقوا عليه ، فصار ذلك سبّة عليهم إلى يوم الناس هذا . 

قال الشاعر وهو عوف بن الحارث بن ربيعة بن عامر بن صعصعة لرجلٍ من محارب منشداً : 

كأنّك لـــــم تشــهد عكــاظاً وأهلـهـــا 
وضرب القداح للعـــــلى والمــــكارم
خرجنا خروج الودق من خلل السما 
وآل الألى خابــــوا بعــــــار مـــلازم

هناك تعليقان (2):