نصوص ابن فضل الله العمري حول اختلاط الأنساب بتبدّل السكّان والأوطان
يُعدّ ابن فضل الله العمري من كبار علماء القرن الثامن للهجرة ، وقد عاين كثيراً من التغييرات التي تمّت في بلاد العرب ، وفي مقدّمتها التغيّرات الكبرى في سكّان بلاد العرب ، حيث شهدت بلاد العرب رحيل أقوام ونزول غيرهم محلّهم ممّا أحدث تغييراً كبيراً في ديار قبائل العرب فكتب نصّوصاً نفيسة يصوّر هذا الواقع :
قال ابن فضل الله العمري : " إنما نتكلم في سكان الأرض فنقول : كم تبدلت الأرض أرضا والناس ناساً ، ولم يبق في كلّ إقليم صليبة أهله ولا خالصة سكانه ، ولم يداخلهم أهل إقليم آخر ، ولا بقي لكلّ أرض جميع ما اشتملت عليه حدودها لاختلاف الملل والدول ، وإثارة نوائر الحرب في كلّ جانب ، ودخول الداخل من كل وجهة ، وطالما خلا وطن، وجلا أهل دار ، وقهر سلطان بمجاورة فدخل في أرضه واستضاف إلى مملكته ما ليس لها ، وطالت مدد السنين فنسبت إليها ، وليست انها لم تكن من أرضه وإنما استزادها ، وبمثل هذا حصل الاختلال في حدود الأرض ، والاختلاف في الأنساب لاختلاط بعض الناس ببعض فكثير ممّن كرَّت عليهم نوب الدهر فخلوا أوطانهم وسكنوا بلادا أخرى ؛ إمّا للخوف على النفس والمال ، أو لطلب الرزق والمعاش ، أو لحابس ضرورة ، أو هوى فاتخذوها أهلا بأهل وأوطاناً بأوطان ، وتزوجوا في غيرهم فتزوج غيرهم منهم ، ثم ولدوا الأولاد ، وولدت الأولاد الأولاد ، فلم يبق ما يعرف إلا ما هم عليه ، ونسي ما كان .
وقال : " ويكفي من أبصر وسمع كيف اضطربت الأرض بأهلها أيام جنكزخان وبعده من الصين إلى أقصى الشام بخراب الديار ، وقلع الآثار ، وعموم القتل في سكان الأرض إلا من نجا بنفسه وفر إلى أرض بعيدة وبلاد شاسعة . وساق الخوف الحفال إلى مصر فألقوا عصاهم واستقرّت بهم النوى حتى نصر الله الإسلام - بعين جالوت - على التتار ، وانكشف ظلمهم عن الشام ، وضربت الغزاة بيننا وبينهم بسور ، وصارت حداً بين ما غلبوا عليه ، وما بقي من ممالك الإسلام بمصر والشام . وهم أعتى التتار في تلك السنين على الجد في طلب ما بقي فاستوطنت الحفال مصر وسكنوها فرارا من مجاورة التتار ، ولو أمكنهم أن يعدّوا لمغرب الشمس من شدّة ما حصل لهم من الخوف لفعلوا .
ثم لم تحدثهم نفوسهم بالانتقال من مصر حتى ولو إلى الشام لإطلال طلائع التتار عليهم في كلّ ساعة من تلك الأيام . ثم ماتت تلك الحفال ولم يبق إلا أولادهم وأولاد أولادهم ، فلم يعرفوا لهم وطنا سوى مصر ، ولا بقي أحد منهم إذا سألته عن نسبه يقول : إلّا مصري وهم من بخاري أو سمرقند أو خجند أو خوارزم .
ومنهم من نسي ومنهم من تناسي لم يعرف سوى المكان الذي هو به . وإذا كان الأمر على هذا فلم يبق معنى لتخصيص ذوي نسب بسكن مكان دون آخر ، بل كان في إقليم من عموم الناس وأنواع الأجناس .
وقالت الحكماء : لو سكن صقلبي جصي اللون في نهاية البياض والشقرة بلاد الجنوب وأولد بها ثم أولد ولده ولداً ، جاء البطن السابع أسود مثل أهل الجنوب . وكذلك لو سكن زنجي محترق في غاية السواد والقشف بلاد الشمال ، وأولد بها ولداً . ثم أولد الولد ولداً جاء البطن السابع أبيض أشقر خصيباً مثل أهل الشمال ، وقد نقل اختلاف الألوان لسبب آخر غير البلدية .
قلت : وأحوال البلاد كأحوال الناس تختلف بحسب الأوقات؛ لأنّه لمّا كان الكلّ حادثاً كان محل التغيير . فسبحان الله القديم الباقي الذي لا يتغير ولا تدركه الحوادث .
وقد قدمنا القول : إنا نتكلم في أمر البلاد وأهلها على حال زماننا لا على ما كانت عليه ولا نصّاً بقول قائل : لم ذكر المدينة الفلانية وما ذكر المدينة الفلانية والتي لم يذكرها أكبر أو أكثر ، أو أقدم ، أو أعظم ، أو قاعدة الملك الأصلي فإن قواعد الملك تنقلب في كلّ مملكة كانت قاعدة الملك ، ومرّة هذه المدينة ثمّ صارت مرّة تلك الأخرى على ما اقتضته تلك الأوقات ، وآراء تلك الملوك . ونحن نذكر هنا ما نستدل به على ما ذكرنا لندفع اعتراض من يعترض فنقول : إنَّ قاعدة الخلافة أوّل ما كانت المدينة الشريفة - على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام مدّة أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلمّا انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - انتقل من المدينة إلى الكوفة واتخذها قاعدة خلافته ، وربّما استوطن البصرة ، وجاء ابنه الحسن - عليه السلام - المديدة التي أقامها ، والكوفة قاعدة خلافته على ما كان عليه أبوه .
وقد كان معاوية بدمشق أميراً من قبل عمر وعثمان ؛ فلمّا بويع علي - رضي الله عنه - ونازعه معاوية في الأمر ، ودعا إلى نفسه بالخلافة كان بدمشق .
ثم لم تحدثهم نفوسهم بالانتقال من مصر حتى ولو إلى الشام لإطلال طلائع التتار عليهم في كلّ ساعة من تلك الأيام . ثم ماتت تلك الحفال ولم يبق إلا أولادهم وأولاد أولادهم ، فلم يعرفوا لهم وطنا سوى مصر ، ولا بقي أحد منهم إذا سألته عن نسبه يقول : إلّا مصري وهم من بخاري أو سمرقند أو خجند أو خوارزم .
ومنهم من نسي ومنهم من تناسي لم يعرف سوى المكان الذي هو به . وإذا كان الأمر على هذا فلم يبق معنى لتخصيص ذوي نسب بسكن مكان دون آخر ، بل كان في إقليم من عموم الناس وأنواع الأجناس .
وقالت الحكماء : لو سكن صقلبي جصي اللون في نهاية البياض والشقرة بلاد الجنوب وأولد بها ثم أولد ولده ولداً ، جاء البطن السابع أسود مثل أهل الجنوب . وكذلك لو سكن زنجي محترق في غاية السواد والقشف بلاد الشمال ، وأولد بها ولداً . ثم أولد الولد ولداً جاء البطن السابع أبيض أشقر خصيباً مثل أهل الشمال ، وقد نقل اختلاف الألوان لسبب آخر غير البلدية .
قلت : وأحوال البلاد كأحوال الناس تختلف بحسب الأوقات؛ لأنّه لمّا كان الكلّ حادثاً كان محل التغيير . فسبحان الله القديم الباقي الذي لا يتغير ولا تدركه الحوادث .
وقد قدمنا القول : إنا نتكلم في أمر البلاد وأهلها على حال زماننا لا على ما كانت عليه ولا نصّاً بقول قائل : لم ذكر المدينة الفلانية وما ذكر المدينة الفلانية والتي لم يذكرها أكبر أو أكثر ، أو أقدم ، أو أعظم ، أو قاعدة الملك الأصلي فإن قواعد الملك تنقلب في كلّ مملكة كانت قاعدة الملك ، ومرّة هذه المدينة ثمّ صارت مرّة تلك الأخرى على ما اقتضته تلك الأوقات ، وآراء تلك الملوك . ونحن نذكر هنا ما نستدل به على ما ذكرنا لندفع اعتراض من يعترض فنقول : إنَّ قاعدة الخلافة أوّل ما كانت المدينة الشريفة - على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام مدّة أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلمّا انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - انتقل من المدينة إلى الكوفة واتخذها قاعدة خلافته ، وربّما استوطن البصرة ، وجاء ابنه الحسن - عليه السلام - المديدة التي أقامها ، والكوفة قاعدة خلافته على ما كان عليه أبوه .
وقد كان معاوية بدمشق أميراً من قبل عمر وعثمان ؛ فلمّا بويع علي - رضي الله عنه - ونازعه معاوية في الأمر ، ودعا إلى نفسه بالخلافة كان بدمشق .
وقال : " وخلاصة الأمر أنّه لم يبق بلدٌ على حاله ، ولا خالصاً لصليبة أهله ولو فحصت عن حقائق الأنساب لوجدت كثيراً من العرب عجماً ، وكثيراً من العجم عرباً ؛ غيّرهم الزيّ والبلد "
وقال : " في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم ومضارب أحيائهم ومساكنهم على افتراق فرقهم ، واختلاف طوائفهم ، وأشتات قبائلهم ، ومنازلهم من أطراف العراق إلى آخر المغرب دون من في اليمن وخراسان ، فإنه لم يتحرّر لي أمرهم وإنما ذكر من عرف منهم إذ لم يكن بد من ذكرهم . وهم نزّال حول الحاضرة ، وذوو توغل في البادية . وهم أسوار المدن ، وحفظة الطرق ، ولم يزل منهم أئمة للطلائع ، وجناح للجيوش . ومنهم بممالكنا ۔ مصر والشام - حفظة الدروب ، والقومة بخيل البريد ، والحمل للسياق في غالب المملكة . ولم تزل الملوك تهش لوفادتهم ، وتهبُّ لهم جزيل الأموال ، وتقطعهم جلّ البلاد هذا إلى التنويه بأقدارهم ، والتعويل على أخيارهم ، ورفعهم في المجالس . وقد ذكرناهم على ما هم عليه الآن من النسب مع ما حصل من التداخل في الأنساب ، والتباين في الأسباب ، والتنقل في الديار ، والتبدل بالأقطار " أ . هــ
واحـة الأحيوات:
نصوص الأنساب
ليست هناك تعليقات: